فصل: مطلب إرسال الرزق عفوا وكون العرش على الماء وكيفية الخلق:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولهذا البحث صلة في الآية 98 من سورة الأنعام الآتية، وقد ألمعنا إليه في الآية 9 من سورة مريم المارة {كُلٌّ} من الدواب دوّن اسمه ورزقه ومستقره ومستودعه، وما يطرأ عليه في مدة أجله {فِي كِتابٍ مُبِينٍ 6} ظاهر مثبت فيه كل شيء قبل خلقه وبعد خلقه، وموضح فيه آجال الأشياء ومصيرها بعد موتها وانعدامها بأي صورة كانت وتكون، والدبّ مأخوذ من الدبيب وهو الشيء الخفيف وعليه قوله:
زعمتني شيخا ولست بشيخ ** إنما الشيخ من يدب دبيبا

ويفهم من هذه الآية أن اللّه تعالى يسوق رزق كل دابة إليها دون أن تسعى إليه بمقتضى تكفله لها بدليل قوله تعالى: {وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ} الآية 22 من الذاريات الآتية، وقوله صلى اللّه عليه وسلم: لو توكلتم على اللّه لحق التوكل لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا.
وما جاء في الخبر: لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا اللّه وأجملوا في الطلب.
وتؤذن أيضا في حمل العباد على التوكل، إلا أنه لا يمنع من مباشرة الأسباب، مع العلم بأن اللّه تعالى هو المسبب لها وجاء في الخبر: «اعقل وتوكل». وقال تعالى: {فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} الآية 16 من سورة الملك الآتية، ففيهما إيذان بتعاطي الأسباب مع التوكل على اللّه، إلا أنه لا ينبغي أن يعتقد عدم حصول الرزق بدون مباشرة سبب، فإنه تعالى يرزق كثيرا من خلقه دون مباشرة الأسباب أصلا، فقد جاء في بعض الأخبار أن موسى عليه السلام عند نزول الوحي تعلق قلبه بأحوال أهله؛ إذ أمره اللّه تعالى بالاشتغال بتبليغ الرسالة إلى من يعلم عتوه له وعناده وبغضه له بسبب قتل الرجل من قومه قاتله اللّه ولم يحسب قتل الألوف من قبله من قوم موسى، فأمره اللّه تعالى أن يضرب صخرة بعصاه، فضربها فانشقت عن صخرة ثانية، فضربها فانشقت عن صخرة ثالثة، فضربها فانشقت عن دودة كالذرة، وفي فمها شيئ يجري مجرى الغذاء لها، وسمعها تقول سبحان من يراني ويسمع كلامي ويعرف مكاني ولا ينساني، فتنبه موسى عليه السلام لذلك وصرف نظره عن ذكر أهله.
وما أحسن قول ابن أذينة:
لقد علمت وما الإسراف من خلقي ** إن الذي هو رزقى سوف يأتيني

أسعى إليه فيعييني تطلبه ** ولو أقمت أتاني لا يعنيني

وقد صدقه اللّه تعالى حيث وقد على هشام بن عبد الملك، فلما رآه قرّعه بقوله هذا فقال له وتشد رحلك من المدينة إلى الشام بطلب الرزق، فتركه ورجع، فلما غاب عنه ندم هشام على ما وقع منه نحوه، وكانوا يخشون الشعراء حفظا لكرامتهم، لأن الشاعر قد لا يترك عادته من الهجاء كما لا يتركها في المدح، ولهذا قال صلى اللّه عليه وسلم: ذبوا بأموالكم عن أعراضكم، فأرسل بجائزته إليه من دمشق إلى المدينة، فلما رأى أنه أرسلها رغما عنه دون طلب منه، قال للرسول قل له قد صدقت في قولي ولو أراد اللّه لما بعثك بها من الشام إلى المدينة، فأخبر الرسول هشام بن عبد الملك بما قاله ابن أذينة فسمعه ورجع عن كلامه.

.مطلب إرسال الرزق عفوا وكون العرش على الماء وكيفية الخلق:

ولا ينبغي لمثله أن يفعل ذلك، ويوجد أخبار وآثار كثيرة في هذا الشأن، وقد ألغى أمر الأسباب إلغاء تاما القائل:
مثل الرزق الذي تطلبه ** مثل الظل الذي يمشي معك

أنت لا تدركه متبعا ** وإذا وليت عنه تبعك

وهذا يكون بحسب مكابرة الأشخاص واعتقاداتهم، وبالجملة فينبغي الوثوق باللّه وربط القلب به فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وتشير هذه الآية أيضا إلى أن الحرام رزق وإلا فمن يأكل طول عمره حراما يلزم أن لا يكون مرزوقا، وهو خلاف الواقع، وقدمنا ما يتعلق في هذا عند الآية 59 من سورة يونس المارة وما يتعلق بالكسب في الآية 20 من سورة المزمل، والآيتين 40/ 39 من سورة والنجم، وفي الآية 13 من سورة فاطر المارات، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} راجع تفسيرها في الآية 60 من سورة الفرقان المارة وفيها ما يرشدك إلى المواقع الأخرى التي تعرضنا فيها للبحث عما فيها، وله صلة في الآية 9 من سورة فصلت الآتية {وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ} قبل خلق السموات والأرض، فتدل هذه الآية على أن العرش والماء خلقا قبل السموات والأرض، وفي وقوف العرش على الماء مع عظمته اعتبار لأهل الأفكار، وفيه من كمال القدرة ما فيه، لأن البناء الضعيف إذا لم يكن له أساس على أرض صلبة لم يثبت فكيف بهذا الخلق العظيم قد وضع على الماء، ولم يخرج عن حيّزه الطبيعي؟ ولا يقال كيف، لأن افعال اللّه تعالى لا تعلل وقدرته لا تضاهى كما قدمنا في الآية 92 من سورة يونس المارة، روى مسلم عن عبد اللّه بن عمر وبن العاص قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول كتب اللّه مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء.
وأخرج الطيالسي وأحمد والترمذي وحسنه وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي رزين العقيلي قال: قلت يا رسول اللّه أين كان ربنا قبل أن يخلق السموات والأرض؟ قال كان في عماء ما تحته هواء وما فوقه هواء، وخلق عرشه على الماء.
وروى البخاري عن عمران بن حصين قال دخلت على النبي صلى اللّه عليه وسلم وعقلت ناقتي بالباب، فأتى ناس من تميم فقال اقبلوا البشرى يا بني تميم، فقالوا بشرتنا فأعطنا، فتغير وجه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ثم دخل ناس من أهل اليمن فقال اقبلوا البشر يا أهل اليمن إذ لم يقبلها بنو تميم، قالوا قبلنا يا رسول اللّه، ثم قالوا جئنا نتفقه في الدين ونسألك عن أول هذا الأمر ما كان؟ قال كان اللّه سبحانه وتعالى ولم يكن معه شيء، وكان عرشه على الماء، ثم خلق السموات والأرض وكتب في الذكر كل شيء، ثم أتاني رجل فقال يا عمران أدرك ناقتك فقد ذهبت، فانطلقت أطلبها، فإذا السراب يقطع دونها، وأيم اللّه لوددت أنها ذهبت ولم أقم.
هذا ومعنى كان اللّه ولم يكن معه شيء، يعني لا الماء ولا العرش ولا غيرهما، ومعنى كان عرشه على الماء، يعني خلق الماء وخلق العرش فوقه، ومعنى العماء سحاب رقيق ليس معه شيء، ومعنى قوله ليس فوقه هواء أي ليس فوق العماء هواء، وكذلك وما تحته هواء، وفي رواية في عمى بالقصر لا بالمد، وعليه يكون المعنى أن لا شيء ثابت في ذلك، لأنه من عمى معرفته عن الخلق أي كان قبل أن يخلق خلقه، ولم يكن شيء غيره، ويكون معنى ما فوقه هواء ليس فوق العمى هواء ولا تحته هواء، لأنه لا شيء، وإذا كان لا شيء فليس يثبت له هواء بوجه ما.
وقيل العمى كل أمر لا يدركه الفطن واللّه أعلم، لأن هذا التأويل على كلام العرب المعقول عنهم، وإلا فلا أحد يدري كيف كان ذلك العماء، فيجب الإيمان به بلا تكييف، لأن الأمور المتشابهة ينبغي الإيمان بها حسب ظاهرها والوقوف عندها، وذلك طريق السلامة، راجع الآية 5 من سورة طه المارة تجد ما يسرك {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} في هذه الدنيا وأكثر ورعا عن محارم اللّه، وأعظم شكرا لنعمائه، وأحسن تفكرا في موضوعاته، وأشدّ تدبرا في مكوناته أي لهذا خلقها وخلق ما فيها من الخلق الذي من جملته أنتم أيها العقلاء، ورتب فيها ما تحتاجون إليه من بدء وجودكم وأسباب معايشكم، وأودع فيها ما تستدلون به على بدائع مكوناته، وتعتبرون بها على ما يقع من مقدراته ليعاملكم معاملة المختبر الممتحن فيرى المحسن منكم لخلقه ويجاز به على إحسانه، والمسيء التصرف في ذلك فيعاقبه على إساءته، وإلا فهو عالم بالصالح والطالح قبل إيجادهما {وَلَئِنْ قُلْتَ} يا سيد الرسل لكفار قومك {إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ} أحياء كحياتكم هذه فتسألون عما عملتم وتحاسبون عما وقع منكم في الدنيا، فيثاب المؤمن على إيمانه ويعاقب الكافر على كفره {لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا} الذي يقوله محمد ويزعم أنه من القرآن الذي أنزل عليه من ربه ما هو {إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ 7} ظاهر خداعه باطل لا أصل له، يريد به أن نقول ما يقوله من الحياة بعد الموت وعبادة الإله الواحد ليغرينا به، قال تعالى: {وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ} الذي وعدناك بإنزاله عليهم يا سيد الرسل عند عدم قبولهم ما تتلوه عليهم من وحينا {إِلى أُمَّةٍ} آجال وجماعة من الأوقات {مَعْدُودَةٍ} قلائل معلومة محدودة لأن الدنيا كلها قليلة بالنسبة إلى الآخرة، ويطلق لفظ الأمة على الجماعة من الناس، فكأنه تعالى قوله يقول لو أخرناهم بمقدار حياة أمة وانقراضها ومجيء أمة أخرى {لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ} ما يمنع العذاب الذي توعدنا به يا محمد من النزول استهزاء وسخرية بك يا أكمل الرسل، لشدة جهلهم وعدم علمهم أن لمقدراتنا كلها آجالا مقدرة لا تقدم ولا تؤخر عما هو مدون في علمنا الأزلي، ولكن قل لهم إنه نازل بهم لا محالة، ثم صدّر الخطاب بأداة التنبيه المار ذكرها في الآية الخامسة من هذه السورة فقال: {أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ} بوجه من الوجوه لأن أجل اللّه إذا حل لا يحول وهو مهلكهم البتة.

.مطلب أداة التنبيه وجواز تقديم خبر ليس عليها:

واستدل جمهور البصريين على جواز تقديم خبر ليس عليها كما يجوز تقديمه على اسمها بلا خلاف، لأن يوم منصوب بمصروفا الذي هو خبرها، ولا عبرة لمن ادعى عدم الجواز بعد أن وقع في كتاب اللّه تعالى، قال في البحر: تتبعت دوارين العرب فلم أظفر بتقديم خبر ليس عليها، ولا تقديم معموله إلا ما دل عليه ظاهر هذه الآية وقول الشاعر:
فيأبى فما يزداد إلا لجاجة ** وكنت أبيا في الخنى لست أقدم

فإنه مقدم عليها، قال تعالى: {وَحاقَ بِهِمْ} أحاط بهم من جميع جهاتهم {ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ 8} أي العذاب المعبر عنه بما من كل جوانبهم فلا محيص لهم للتخلص منه، وأصل (حاقَ) حقّ مثل زل وزال وذم وذام، وجاء بمعنى الماضي لتحقق وقوعه، وإلا فالمقام يستدعي مجيئه مستقلا لعدم وقوعه بعد (ان يحيق بهم) وجاء بيستهزئون مكان يستعجلون، لأن استعجالهم بطلب نزول العذاب كان بطريق السخرية، لأنهم غير مصدقين به قال تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً} من صحة وسعة وأمن بحيث يجد لذّتها، ولذلك عبّر بالإذاقة عن الإعطاء والإيصال {ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ} لعدم قيامه بشكرها، قال عليه الصلاة والسلام اشكروا النعم لا تكفروها، فإنها إن زالت فهيهات أن تعود.
فالعاقل يقدر النعمة حال تلبسه بها، والجاهل لا يقدرها حتى تسلب منه بالمرض والضّيق والخوف فإذ ذاك يندم ولات حين مندم، وعبّر عن السلب بالنزع إشعارا بشدة تعلقه بها وإيذانا بزيادة حرصه عليها {إِنَّهُ لَيَؤُسٌ} من عودها إليه قنوط الرجاء من فضل اللّه، لعدم صبره وتوكله عليه وثقته به، ولو كان متوكلا وثقا باللّه لقيدها بالشكر ولكنه {كَفُورٌ 9} لما أسلفه اللّه من النعم شديد الجحود لها كأن لم ينعم عليه بشيء، لأن الضيق بعد سعة الرزق، والمرض بعد الصحة، والخوف بعد الأمن صعب جدا، لا يقدر من يصبر عليه كل أحد، أجارنا اللّه من ذلك.
قال تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ} وأرهقته {لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي} تباعد عني كل ما يسوءني من فقر ومرض وخوف وذل، فيأمن مكر اللّه إذ يغيب عن باله زوالها إذا لم يؤد شكرها ويصرفها مصارفها ولم يضفها إلى اللّه تعالى بل إلى الصدقة والعادة والكد، ولهذا فقد ذمه اللّه بقوله عز قوله: {إِنَّهُ لَفَرِحٌ} بما ناله من ذلك الخير {فَخُورٌ 10} به على غيره، ولم يخطر بباله أن ذلك كله من ربه.
واعلم أن للفرح لذة في القلب تحصل بنيل المراد، واليئوس والفخور والكفور، أحمد مبالغة تدل على الكثرة والفخر والتطاول على الناس بما عنده من المعاقب والمال والنشب والرياش والرياسة، واللام في لئن في الآيات الأربع المارة موطئة للقسم، وجوابه سادس جواب الشرط كما في قوله:
لئن عاد لي عبد العزيز بمثلها ** وأمكنني منها إذا لا أقيلها

برفع أقيلها لأن إذن هنا حرف جواب وجزاء فقط، إذ فصلت لا النافية بينها وبين الفعل، وشرط النصب بها عدم الفصل والتصدير وكون الفعل بعدها مستقبلا ولم يغتفر بالفصل بينها وبين الفعل إلا بالقسم كقوله:
إذن واللّه نرميهم بحرب ** يشيب الطفل من قبل المشيب

لأن الفصل بغير القسم يمنع تسلط الناصب، وعليه قول أبي محجن الثقفي رحمه اللّه:
إذا مت فادفنّي إلى أصل كرمة ** تروي عظامي بعد موتي عروقها

ولا تدفنّي في الفلاة فإنني ** أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها

بالرفع لعدم تسلط الناصب بسبب الفصل بلا، وإنما قلت رحمه اللّه لأنه تاب توبة نصوحا في حرب القادسية، وسنأتي على قصته في غير هذا الموضع.
قال تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا} على الشدائد والمصائب وأيقنوا أن اللّه تعالى سيبدل عسرهم يسرا، وخسرهم نفعا، وخوفهم أمنا، وذلّهم عزّا، فإن هؤلاء يسندون كل ما يصيهم إلى ربهم ويعلمون أن الخير برضاه والشر بقضاه.
واعلم أن هذا الاستثناء متصل من الإنسان إذا أردنا بالإنسان الهار ذكره في الآية المتقدمة الجنس، وأل فيه للاستغراق، ومنقطع إذا أردنا به الإنسان الكافر، وال فيه للعهد.
قال ابن عباس المراد كافر معين وهو الوليد بن المغيرة أو عبد اللّه بن أمية المخزومي.
على أن الإطلاق أولى، فيدخل فيه المذكوران وغيرهم، ولا مندوحة عندي في تخصيص هذين الكافرين وأضرابهما في نزول آيات اللّه، وهم أصغر من ذلك، والأحسن أن يجنح المفسر إلى عدم تقييد أو تخصيص آيات اللّه بإنسان أو شيء إلا إذا كان هناك مقيد أو مخصص، وإلا فالإطلاق والتعميم أولى وأحسن للذين فقهوا معنى الآيات {وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ} مع صبرهم وداوموا عليها حال عسرهم ويسرهم وشكروا اللّه تعالى على ما آتاهم من فضله من النعم ورجوا منه دوامها وصبروا وحمدوا عند زوالها {أُولئِكَ} الذين هذه صفاتهم {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} عظيمة لذنوبهم مهما كانت، لأن الغفور لا يعظم عليه شيء {وَ} لهم بعد هذه المغفرة {أَجْرٌ كَبِيرٌ 11} لا أكبر منه وهو الجنة، وقد وصف اللّه تعالى ثوابهم بالكبر لما يحتوي عليه من النعيم السرمدي ولاشتماله على رضاء اللّه.
هذا ولما تمادى الكفرة على طلب اقتراح الآيات من حضرة الرسول تعنتا لا استرشادا، لأنهم لو كانوا مستهدين لكفتهم آية واحدة ولما داوموا على استهانتهم بحضرة الرسول وعدم اعتبارهم ما يتلوه عليهم من القرآن الحكيم، ضاق صدره الشريف من ذلك، واشتد ضيقه لما يرى من ضحكهم وسخريتهم واستهزائهم عليه وعلى ربه وكتابه، وخاف أن يلحقه ملل من الإدمان على وعظهم هيّجه اللّه تعالى والهب في قلبه التشدد بأداء الرسالة وطرح المبالاة بردهم ما يلقيه إليهم من الوحي، فقال جل جلاله {فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ} من هذا القرآن مخافة عدم قبولهم به {وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} من عتو كفرة قومك، فلا تتلوه عليهم ولا تبلغهم أحكامه.
قال ضائق لمشاكلة تارك، وليدل على أن الضيق عارض له لأنه صلى اللّه عليه وسلم أفسح الناس صدرا وأوسعهم خلقا، كيف لا وقد مدحه ربه بقوله عز قوله: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} الآية 5 من سورة نون المارة، وقوله تعالى: {فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} الآية 160 من آل عمران الآتية.

.مطلب في اسم الفاعل والآيتين المدنيتين والتحدي بالقرآن:

إلا أن الضيق يطرأ عليه أحيانا بسبب ما يلاقي من قومه، ولأن كل صفة مشبهة إذا قصد بها الحدوث تحول إلى فاعل، فتقول في سيد وجواد وسمين سائد وجائد وسامن مثلا، وعلى هذا قول اللص إذ يصف السجن:
بمنزلة أما اللئيم فسامن ** بها وكرام الناس باد شحوبها

فعلى هذا أن كل ما يبنى من الثلاثي للثبوت والاستقرار على غير وزن فاعل يرد إليه إن أريد به معنى الحدوث من غير توقف على سماع، وما قيل إن العدول من ضيّق إلى ضائق لمجرد مشاركة تارك ليس بشيء، ولا يوجد في القرآن اسم فاعل من ضاق على وزن ضائق إلا هذا كما لا يوجد فيه فعل خماسي أصالة.
واعلم أن ما قاله بعض المفسرين من أن النبي صلى اللّه عليه وسلم همّ أن يدع سبّ آلهتهم ظاهرا حينما قالوا له: {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ} بما ليس فيه سبّ آلهتنا ولا مخالفة آبائنا كما تقدم في الآية 15 من سورة يونس المارة غير سديد وحاشاه من ذلك، لأنه صلى اللّه عليه وسلم معصوم من الإخبار مما أمر بتبليغه أن يبلغه بخلاف ما هو لا خطأ ولا عمدا، ولا سهوا ولا غلطا، ومعصوم أيضا أن يسكت عن شيء منه أو يكتمه، لأنه محتم عليه أن يبلغ ما أنزل إليه كما أنزل حرفيا، وإن اللّه تعالى عاصمه من كيد كل كائد كما سيمر عليك في الآية 70 من المائدة، وقد أجمعت العلماء على ذلك، لأن تجويز ترك شيء من القرآن يؤدي إلى الشك في أداء الشريعة والتكاليف المطلوبة من البشر، إذ المقصود من إرسال الرسل تبليغ وحي اللّه للمرسل إليهم، فإذا لم يحصل فقد فاتت الفائدة المتوخاة من إرسالهم، وهم معصومون من ذلك كله، راجع آخر سورة والنجم المارة تجد ما يطمئن إليه ضميرك ويشرح له صدرك في هذا البحث {أَنْ يَقُولُوا} أي لعلك تترك تبليغ بعض الوحي مخافة قولهم: {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ} مال كثير يستغني به عن السعي ويجلب الناس بسبب بثه إليهم، الكنز هو ما يدخر من المال ولا يكون إلا كثيرا، وعبروا بالإنزال دون الإعطاء أو الحصول، لأن مرادهم التعجيز يكون ذلك على خلاف العادة، لأن الكنوز إنما تكون في الأرض فتستخرج منها لا أنها تنزل من السماء {أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ} يصدق كل ما يقوله لنا إنه من عند ربه حتى نصدقه، وإلا بمجرد كلامه فلا، لأنا نعلم أنه مختلقه من من نفسه أو يتعلمه من الغير أو يسمعه من خرافات الأولين، يقول اللّه تعالى لحبيبه إذا صارحوك بهذه الأقوال التافهة فأعرض عنهم: {إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ} لهم من عذاب اللّه واللّه شاهد على رسالتك فلست بحاجة إلى المال الذي فيه مطمع قومك ولا إلى الملك ليشهد لك على وحينا، ولست بوكيل على إيمانهم: {وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ 12} بما فيه أنت وقومك، قال ابن عباس إن هذا القول والقول في سورة يونس الآية 5 قالته طائفة من الكفرة، أي عبد اللّه المخزومي ورفقاؤه من الضلال وإن حضرة الرسول قال لكل منهم لا أقدر على شيء من ذلك، فنزلت تلك الآية هناك وهذه هنا.